فصل: تفسير الآية رقم (99)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ أي كل غيب وشهادة، وجر ‏{‏عالم‏}‏ على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له لأنه أريد به الثبوت والاستمرار فيتعرف بالإضافة‏.‏

وقر أجماعة من السبعة‏.‏ وغيرهم برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم، والجر أجود عند الأخفش والرفع أبرع عند ابن عطية، وأياً ما كان فهو على ما قيل إشارة إلى دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافق المسلمين والمشركين في تفرده تعالى بذلك‏.‏ وفي «الكشف» أن في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عالم‏}‏ الخ إشارة إلى برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص وضد العلو لأن المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة وهو نوع جهل وقصور، ثم علمه به يكون انفعالياً تابعاً لوجود المعلوم فيكون في إحدى صفات الكمال أعني العلم مفتقراً وهو يؤذن بالنقصان والإمكان ‏{‏فتعالى‏}‏ الله ‏{‏عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ تفريع على كونه تعالى عالماً بذلك كالنتيجة لما أشار إليه من الدليل‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ الفاء عاطفة كأنه قيل علم الغيب والشهادة فتعالى كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته على معنى شجع فعظمت، ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى الخ على أنه إخبار مستأنف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى‏}‏ أي إن كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون زيدتا للتأكيد ‏{‏مَا يُوعَدُونَ‏}‏ أي الذي يوعدونه من العذاب الدنيوي المستأصل وأما العذاب الأخري فلا يناسب المقام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين‏}‏ أي قريناً لهم فيما هم فيه من العذاب، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى استحقاقهم للعذاب، وجاء الدعاء قبل الشرط وقبل الجزاء مبالغة في الابتهال والتضرع، واختير لفظ الرب لما فيه من الإيذان بأنه سبحانه المالك الناظر في مصالح العبد، وفي أمره صلى الله عليه وسلم أن يدعو بذلك مع أنه عليه الصلاة والسلام في حرز عظيم من أن يجعل قريناً لهم إيذان بكمال فظاعة العذاب الموعود وكنه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن يحيق به‏.‏ وهو متضمن رد إنكارهم العذاب واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء‏.‏

وقيل أمر صلى الله عليه وسلم بذلك هضماً لنفسه وإظهاراً لكمال العبودية، وقيل لأن شؤم الكفرة قد يحيق بمن سواهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ وروى عن الحسن أنه جل شأنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن له في أمته نقمة ولم يطلعه على وقتها أهو في حياته أم بعدها فأمره بهذا الدعاء‏.‏

وقرأ الضحاك‏.‏ وأبو عمران الجوني ‏{‏ترئني‏}‏ بالهمز بدل الياء وهو كما في البحر إبدال ضعيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏الظالمين وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ‏}‏ من العذاب ‏{‏لقادرون‏}‏ ولكنا لا نفعل بل نؤخره عنهم لعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم، وقيل قد أراه سبحانه ذلك وهو ما أصابهم يوم بدر أو فتح مكة، قال شيخ الإسلام‏:‏ ولا يخفى بعده فإن المتبادر أن يكون ما يستحقونه من العذاب الموعود عذاباً هائلاً مستأصلاً لا يظهر على يديه صلى الله عليه وسلم للحكمة الداعية إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ أي ادفع بالحسنة التي هي أحسن الحسنات التي يدفع بها ‏{‏السيئة‏}‏ بأن تحسن إلى المسيء في مقابلتها ما استطعت، ودون هذا في الحسن أن يحسن إليه في الجملة، ودونه أن يصفح عن إساءته فقط، وفي ذلك من الحث له صلى الله عليه وسلم إلى ما يليق بشأنه الكريم من حسن الأخلاق ما لا يخفى، وهو أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة لمكان ‏{‏أَحْسَنُ‏}‏ والمفاضلة فيه على حقيقتها على ماذكرنا وهو وجه حسن في الآية، وجوز أن تعتبر المفاضلة بين الحسنة والسيئة على معنى أن الحسنة في باب الحسنات أزيد من السيئة في باب السيئات ويطرد هذا في كل مفاضلة بين ضدين كقولهم‏:‏ العسل أحلى من الخل فإنهم يعنون أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة، ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال‏:‏ نشأت أنا والأعمش في حجر فلان فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا فإنه عن استواءهما في بلوغ كل منهما الغاية حيث بلغ هو الغاية في التدلي والأعمش الغاية في التعلي، وعلى الوجهين لا يتعين هذا الأحسن وكذا السيئة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو نعيم في «الحلية» عن أنس أنه قال في الآية‏:‏ يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه فيقول‏:‏ إن كنت كاذباً فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لك وإن كنت صادقاً فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لي‏.‏

وقيل‏:‏ التي هي أحسن شهادة أن لا إلهإلا الله والسيئة الشرك، وقال عطاء‏.‏ والضحاك‏:‏ التي هي أحسن السلام والسيئة، وقيل‏:‏ الأول الموعظة والثاني المنكر، واختار بعضهم العموم وأن ما ذكر من قبيل التمثيل، والآية قيل‏:‏ منسوخة بآية السيف، وقيل‏:‏ هي محكمة لأن الدفع المذكور مطلوب ما لم يؤد إلى ثلم الدين والإراء بالمروءة ‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ‏}‏ أي بوصفهم إياك أو بالذي يصفونك به مما أنت بخلافه، وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى تفويض أمره إليه عز وجل، والظاهر من هذا أن الآية آية موادعة فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين‏}‏ أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به وهي جمع همزة، والهمز النخس والدفع بيد أو غيرها، ومنه مهماز الرائض لحديدة تربط على مؤخر رجله ينخس به الدابة لتسرع أو لتثب، وإطلاق ذلك على الوسوسة والحث على المعاصي لما بينهما من الشبه الظاهر، والجمع للمرات أو لتوع الوساوس أو لتعدد الشياطين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ‏}‏ أي من حضورهم حولي في حال الأحوال، وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحال حلول الأجل كما روى عن عكرمة لأنها أحرى الأحوال بالاستعاذة منها لا سيما الحال الأخيرة ولذا قيل‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من النزع عند النزع، وإلى العموم ذهب ابن زيد، وفي الأمر بالتعوذ من الحضور بعد الأمر بالتعوذ من همزاتهم مبالغة في التحذير من ملابستهم، وإعادة الفعل مع تكرير النداء لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به وعرض نهاية الابتهال في الاستدعاء ويسن التعوذ من همزات الشياطين وحضورهم عند إرادة النوم، فقد أخرج أحمد‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ والترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع بسم الله أعوذ بكلمات التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت‏}‏ ‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية وغاية لمقدر يدل عليه ما قبلها والتقدير فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين وتحضرهم حتى إذا جاء الخ، ونظير ذلك قوله‏:‏

فيا عجباً حتى كليب تسبني *** فإن التقدير يسبني كل الناس حتى كليب إلا أنه حذفت الجملة هنا لدلالة ما بعد حتى، وقيل إن هذا الكلام مردود على ‏{‏يَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 96‏]‏ الثاني على معنى إن حتى متعلقة بمحذوف يدل عليه كأنه قيل‏:‏ لا يزالون على سوء المقالة والطعن في حضرة الرسالة حتى إذا الخ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبّ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 97‏]‏ الخ اعتراض مؤكد للأغضاء المدلول عليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 96‏]‏ الخ بالاستعاذة به تعالى من الشيالطين أن يزلوه عليه الصلاة والسلام عما أمر به، وقيل على ‏{‏يَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏ الأول أو على ‏{‏يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 92‏]‏ وليس بشيء‏.‏

وجوز الزمخشري أن يكون مروراً على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 90‏]‏ ويكون من قوله سبحانه ‏{‏مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏ إلى هذا المقام كالاعتراض تحقيقاً لكذبهم ولاستحقاقهم جزاءه وليس بالوجه، ويفهم من كلام ابن عطية أنه يجوز أن تكون ‏{‏حتى‏}‏ هنا ابتدائية لا غاية لما قبلها وتعقبه أبو حيان بأنها إذا كانت ابتدائية لا تفارقها الغاية، والظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن ضمير ‏{‏أَحَدِهِمْ‏}‏ راجع إلى الكفار، والمراد من مجيء الموت ظهور أماراته أي إذا ظهر لأحدهم أي أحد كان منهم أمارات الموت وبدت له أحوال الآخرة ‏{‏قَالَ‏}‏ تحسراً على ما فرط في جنب الله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبّ ارجعون‏}‏ أي ردني إلى الدنيا، والواو لتعظم المخاطب وهو الله تعالى كما قوله‏:‏

ألا فارحموني يا إله محمد *** فإن لم أكن أهلاً فأنت له أهل

وقول الآخر‏:‏

وإن شئت حرمت النساء سواكم *** وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا برداً

والحق أن التعظيم يكون في ضمير المتكلم والمخاطب بل والغائب والاسم الظاهر وإنكار ذلك غير رضي والإيهام الذي يدعيه ابن مالك هنا لا يلتفت إليه، وقيل‏:‏ الواو لكون الخطاب للملائكة عليهم السلام والكلام على تقدير مضاف أي يا ملائكة ربي ارجعوني، وجوز أن يكون ‏{‏رَبّ‏}‏ استغاثة به تعالى و‏{‏ارجعوني‏}‏ خطاب للملائكة عليهم السلام، وربما يستأنس لذلك بما أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن ابن جريح قال‏:‏ زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها‏.‏ «إن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا‏:‏ نرجعك إلى دار الدنيا‏؟‏ قال‏:‏ إلى دار الهموم والأحزان بل قدوماً إلى الله تعالى وأما الكافر فيقولون له نرجعك‏؟‏ فيقول؛ رب ارجعوني» وقال المازني‏:‏ جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال‏:‏ رب ارجعني ارجعني ارجعني، ومثل ذلك تثنية الضمير في قفا نبك ونحوه‏.‏

واستشكل ذلك الخفاجي بأنه إذا كان أصل ارجعوا مثلاً ارجع ارجع ارجع لم يكن ضمير الجمع بل تركيبه الذي فيه حقيقة فإذا كان مجازاً فمن أي أنواعه وكيف دلالته على المراد وما علاقته وإلا فهو مما لا وجه له‏.‏ ومن غريبه أن ضميره كان مفرداً واجب الاستتار فصار غير مفرد واجب الإظهار ثم قال‏:‏ لم تزل هذه الشبهة قديمة في خاطري والذي خطر لي أن لنا استعارة أخرى غير ما ذكر في المعاصي ولكونها لا علاقة لها بالمعنى لم تذكر وهي استعارة لفظ مكان لفظ آخر لنكتة بقطع النظر عن معناه وهو كثير في الضمائر كاستعمال الضمير المجرور الظاهر مكان المرفوع المستتر في كفى به حتى لزم انتقاله عن صفة أخرى ومن لفظ إلى آخر وما نحن فيه من هذا القبيل فإنه غير الضمائر المستترة إلى ضمير جمع ظاهر فلزم الاكتفاء بأحد ألفاظ الفعل وجعل دلالة ضمير الجمع على تكرر الفعل قائماً مقامه في التأكيد من غير تجوز فيه‏.‏ ولابن جني في «الخصائص» كلام يدل على ما ذكرناه فتأمل انتهى كلامه‏.‏

ولعمري لقد أبعد جداً، ولعل الأقرب أن يقال‏:‏ أراد المازني أنه جمع الضمير للتعظيم بتنزيل المخاطب الواحدة منزلة الجماعة المخاطبين ويتبع ذلك كون الفعل الصادر منه بمنزلة الفعل الصادر من الجماعة ويتبعهما كون ‏{‏ارجعوني‏}‏ مثلاً بمنزلة ارجعني ارجعني ارجعني لكن إجراء نحو هذا في نحو قفا نبك لا يتسنى إلا إذا قيل بأنه قد يقصد بضمير التثنية التعظيم كما قد يقصد ذلك بضمير الجمع؛ ولم يخطر لي أني رأيته فليتبع وليتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏ارجعون لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ‏}‏ أي في الايمان الذي تركته، ولعل للترجي وهو إما راجع للعمل والايمان لعلمه بعدم الرجوع أو للعمل فقط لتحقيق إيمانه إن رجع فهو كما في قولك‏:‏ لعلي أربح في هذا المال أو كقولك‏:‏ لعلي أبني على أس أي أسس ثم أبني، وقيل‏:‏ فيما تركت من المال أو من الدنيا جعل مفارقة ذلك تركاً له، ويجوز أن تكون لعل للتعليل‏.‏

وفي البرهان حكى البغوي عن الواقدي أن جيمع ما في القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 129‏]‏ فإنها للتشبيه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك نحوه، ثم إن طلب الرجعة ليس من خواص الكفار‏.‏ فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مانع الزكاة وتارك الحج المستطيع يسألان الرجعة عند الموت‏.‏ وأخرج الديلمي عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيجعل بين عينيه فعند ذلك يقول‏:‏ ‏{‏رَبّ ارجعون لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ‏}‏» وهذا الخبر يؤيد أن الراد مما تركت المال ونحوه ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها‏.‏

‏{‏أَنَّهَا‏}‏ أي قوله ‏{‏رَبّ ارجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99‏]‏ الخ ‏{‏إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا‏}‏ لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة وتسلط الندم عليه فتقديم المسند إليه للتقوى أو هو قائلها وحده فالتقديم للاختصاص، ومعنى ذلك أنه لا يجاب إليها ولا تسمع منه بتنزيل الإجابة والاعتداد منزلة قولها حتى كأن المعتد بها شريك لقائلها‏.‏ ومثل هذا متداول متداول فيقول من كلمة صاحبه بما لا جدوى تحته‏:‏ اشتغل أنت وحدك بهذه الكلمة فتكلم واستمع يعني أنها مما لا تسمع منك ولا تستحق الجواب‏.‏ والكلمة هنا بمعنى الكلام كما في قولهم‏:‏ كلمة الشهادة وهي في هذا المعنى مجاز عند النحاة‏.‏ وأما عند اللغويين فقيل حقيقة، وقيل مجاز مشهور‏.‏

والظاهر أن ‏{‏كَلاَّ‏}‏ وما بعدها من كلامه تعالى، وأبعد جداً من زعم أن ‏{‏كَلاَّ‏}‏ من قول من عاين الموت وأنه يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم ‏{‏وَمِن وَرَائِهِمْ‏}‏ أي أمامهم وقد مر تحقيقه، والضمير لأحدهم والجمع باعتبار المعنى لأنه في حكم كلهم كما أن الأفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ ‏{‏بَرْزَخٌ‏}‏ حاجز بينهم وبين الرجعة ‏{‏إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ من قبورهم وهو يوم القيامة، وهذا تعليق لرجعتهم إلى الدنيا بالمحال كتعليق دخولهم الجنة بقولهم سبحانه‏:‏ ‏{‏حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏ وعن ابن زيد أن المراد من ورائهم حاجز بين الموت والبعث في القيامة من القبور باق إلى يوم يبعثون، وقيل‏:‏ حاجز بينهم وبين الجزاء التام باق إلى يوم القيامة فإذا جاء ذلك اليوم جوزوا على أتم وجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور‏}‏ لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي يقع عندها البعث والنشور، وقيل‏:‏ المعنى فإذا نفخ في الأجساد أرواحها على أن الصور جمع صورة على نحو بسر وبسرة لا القرن، وأيد بقراءة ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ وابن عياض ‏{‏فِى الصور‏}‏ بضم الصاد وفتح الواو، وقراءة ابن رزين ‏{‏فِى الصور‏}‏ بكسر الصاد وفتح الواو فإن المذكور في هاتين القراءتين جمع صورة لا بمعنى القرن قطعاً والأصل توافق معاني القراءات، ولا تنافي بين النفخ في الصور بمعنى القرن الذي جاء في «الخبر» ودلت عليه آيات أخر وبين النفخ في الصور جمع صورة فقد جاء أن هذا النفخ عند ذاك ‏{‏فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي يوم إذا نفخ في الصور كما هي بينهم اليوم، والمراد أنها لا تنفعهم شيئاف فهي منزلة منزلة العدم لعظم الهول واشتغال كل بنفسه بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه‏.‏

وقد أخرج ابن المبارك في الزهد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وأبو نعيم في «الحلية»‏.‏ وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ إذا كان يوم القيامة جمع الله تعالى الأولى والآخرية وفي لفظ «يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد ألا إن هذا فلان بن فلان فمن كان له حق قبله فليأت إلى حقه وفي لفظ من كان له مظلمة فليجيء ليأخذ حقه فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيراً ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ‏}‏» وهذا الأثر يدل على أن هذا الحكم غير خاص بالكفرة بل يعمهم وغيرهم، وقيل‏:‏ هو خاص بهم كما يقتضيه سياق الآية، وقيل لا ينفع نسب يومئذٍ إلا نسبه صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقد أخرج البزار‏.‏ والطبراني‏.‏ والبيهقي‏.‏ وأبو نعيم‏.‏ والحاكم‏.‏ والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ‏"‏‏.‏

وقد أخرج جماعة نحوه عن مسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً، وأخرج ابن عساكر نحوه مرفوعاً أيضاً عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وهو خبر مقبول لا يكاد يرده إلا من في قلبه شائبة نصب، نعم ينبغي القول بأن نفع نسبه صلى الله عليه وسلم إنما هو بالنسبة للمؤمنين الذين تشرفوا به وأما الكافر والعياذ بالله تعالى فلا نفع له بذلك أصلاً، وقد يقال‏:‏ إن هذا الخبر لا ينافي إرادة العموم في الآية بأن يكون المراد نفي الالتفات إلى الأنساب عقيب النفخة الثانية من غير فصل حسبما يؤذن به الفاء الجزائية فإنها على المختار تدل على التعقيب ويكون المراد تهويل شأن ذلك الوقت ببيان أنه يذهب فيه كل أحد عمن بينه وبينه نسب ولا يلتفت إليه ولا يخطر هو بباله فضلاً عن أنه ينفعه أو لا ينفعه، وهذا لا يدل على عدم نفع كل نسب فضلاً عن عدم نفع نسبه صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكي عن الجبائي أن المراد أنه لا يفتخر يومئذٍ بالأنساب كما يفتخر بها في الدنيا وإنما يفتخر هناك بالأعمال والنجاة من الأهوال فحيث لم يفتخر بها ثمت كانت كأنها لم تكن، فعلى هذا وكذا على ما تقدم يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ أنساب‏}‏ من باب المجاز‏.‏

وجوز أن يكون فيه صفة مقدرة أي فلا أنساب نافعة أو ملتفتاً إليها أو مفتخراً بها وليس بذاك، والظاهر أن العامل في ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ هو العامل في ‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ لا ‏{‏أنساب‏}‏ لما لا يخفى ‏{‏وَلاَ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ أي ولا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله وممن هو ونحو ذلك لاشتغال كل منهم بنفسه عن الالتفات إلى أبناء جنسه وذلك عقيب النفخة الثانية من غير فصل أيضاً فهو مقيد بيومئذٍ وإن لم يذكر بعده اكتفاءً بما تقدم، وكأن كلا الحكمين بعد تحقق أمر تلك النفخة لديهم ومعرفة أنها لماذا كانت، وحينئذٍ يجوز أن يقال‏:‏ إن قولهم‏:‏ ‏{‏مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏ قبل تحقق أمر تلك النفخة لديهم فلا أشكال، ويحتمل أن كلا الحكمين في مبدأ الأمر قبل القول المذكور كأنهم حين يسمعون الصيحة يذهلون عن كل شيء الأنساب وغيرها كالنائم إذا صيح به صيحة مفزعة فهب من منامه فزعاً ذاهلاً عمن عنده مثلاً فإذا سكن روعهم في الجملة قال قائلهم‏:‏ ‏{‏مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏ وقيل‏:‏ لا نسلم أن قولهم‏:‏ ‏{‏مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏ أنه كان بطريق التساؤل، وعلى الاحتمالين لا يشكل هذا مع قوله تعالى في شأن الكفرة يوم القيامة ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 27‏]‏ وفي شأن المؤمنين ‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 50‏]‏ فإن تساؤل الكفرة المنفي في موطن وتساؤلهم المثبت في موطن آخر ولعله عند جهنم وهو بعد النفخة الثانية بكثير، وكذا تساؤل المؤمنين بعدها بكثير أيضاً فإنه في الجنة كما يرشد إليه الرجوع إلى ما قبل الآية، وقد يقال‏:‏ إن التساؤل المنفي هنا تساؤل التعارف ونحوه مما يترتب عليه دفع مضرة أو جلب منفعة والتساؤل المثبت لأهل النار تساؤل وراء ذلك وقد بينه سبحانه بقوله عز من قائل‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 28‏]‏ الآية، وقد بين جل وعلا تساؤل أهل الجنة بقوله سبحانه‏:‏

‏{‏قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 51‏]‏ الآية، وهو أيضاً نوع آخر من التساؤل ليس فيه أكثر من الاستئناس دون دفع مضرة عمن يتكلم معه أو جلب منفعة له‏.‏

وقيل المنفي التساؤل بالأنساب فكأنه قيل لا أنساب بينهم ولا يسأل بعضهم بعضاً بها، والمراد أنها لا تنفع في نفسها وعندهم والآية في شأن الكفرة وتساؤلهم المثبت في آية أخرى ليس تساؤلاً بالأنساب وهو ظاهر فلا إشكال‏.‏ وروى جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن وجه الجمع بين النفي هنا وازثبات في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 27‏]‏ فقال‏:‏ إن نفي التساؤل في النفخة الأولى حين لا يبقى على وجه الأرض شيء وإثباته في النفخة الثانية، وعلى هذا فالمراد عنده بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور‏}‏ فإذا نفخ النفخة الأولى وهذه إحدى روايتين عنه رضي الله تعالى عنه، والرواية الثانية حمله على النفخة الثانية، وحينئذٍ يختار في وجه الجمع أحد الأوجه التي أشرنا إليها‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏وَلاَ‏}‏ بتشديد السين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏موازينه فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏ الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مهروب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ موازينه‏}‏ أي موازين أعماله الحسنة أو أعماله التي لا وزن لها ولا اعتداد بها وهي أعماله السيئة كذا قيل؛ وهو مبني على اختلافهم في وزن أعمال الكفرة فمن قال به قال بالأول ومن لم يقل به قال بالثاني، وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة الأعراف فتذكر‏.‏

‏{‏فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ ضيعوها بتضييع زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها، واسم الإشارة في الموضعين عبارة عن الموصول، وجمعه باعتبار معناه كما أن إفراد الضميرين في الصلتين باعتبار لفظه‏.‏

‏{‏فِى جَهَنَّمَ خالدون‏}‏ خبر ثان لأولئك، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم خالدون في جهنم، والجملة إما استئنافية جيء بها لبيان خسرانهم أنفسهم، وإما خبر ثان لأولئك أيضاً، وجوز أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ نعتاً لاسم الإشارة و‏{‏خالدون‏}‏ هو الخبر، وقيل‏:‏ ‏{‏خالدون‏}‏ مع معموله بدل من الصلة، قال الخفاجي‏:‏ أي بدل اشتمال لأن خلودهم في جهنم يشتمل على خسرانهم، وجعل كذلك نظراً لأنه بمعنى يخلدون في جهنم وبذلك يصلح لأن يكون صلة كما يقتضيه الإبدال من الصلة، وظاهر صنيع الزمخشري يقتضي ترجيح هذا الوجه وليس عندي بالوجه كما لا يخفى وجهه‏.‏ وتعقب أبو حيان القول بأن ‏{‏فِى جَهَنَّمَ خالدون‏}‏ بدل فقال‏:‏ هذا بدل غريب وحقيقته أن يكون البدل ما يتعلق به ‏{‏فِى جَهَنَّمَ‏}‏ أي استقروا، وكأنه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم، وأنت تعلم أن الظاهر تعلق ‏{‏فِى جَهَنَّمَ‏}‏ بخالدون وأن تعليقه بمحذوف وجعل ذلك المحذوف بدلاً وإبقاء ‏{‏خالدون‏}‏ مفلتاً مما لا ينبغي أن يلتفت إليه مع ظهور الوجه الذي لا تكلف فيه

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار‏}‏ جملة حالية أو مستأنفة، واللفح مس لهب النار الشيء وهو كما قال الزجاج أشد من النفح تأثيراً، والمراد تحرق وجوههم النار، وتخصيص الوجوه بذلك لأنها أشرف الأعضاء فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وهو السر في تقديمها على الفاعل‏.‏

‏{‏وَهُمْ فِيهَا كالحون‏}‏ متقلصو الشفاه عن الأسنان من أثر ذلك اللفح، وقد صح من رواية الترمذي‏.‏ وجماعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» وأخرج ابن مردويه‏.‏ والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثَقُلَتْ موازينه فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خالدون تَلْفَحُ‏}‏ الخ‏:‏ تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكلوح بسور الوجه وتقطيبه‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏.‏ وأبو بحرية‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏كالحون‏}‏ بغير ألف جمع كلح كحذر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَكُنْ ءاياتي تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ على إضمار القول أي يقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً وتذكيراً لما به استحقوا ما ابتلوا به من العذاب ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا ‏{‏فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏ حينئذٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا‏}‏ أي استولت علينا وملكتنا شقاوتنا التي اقتضاها سوء استعدادنا كما يومىء إلى ذلك إضافتها إلى أنفسهم‏.‏ وقرأ شبل في اختياره ‏{‏شِقْوَتُنَا‏}‏ بفتح الشين‏.‏ وقرأ عبد الله‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ والمفضل عن عاصم‏.‏ وأبان‏.‏ والزعفراني وابن مقسم ‏{‏شقاوتنا‏}‏ بفتح الشين وألف بعد القاف‏.‏ وقرأ قتادة أيضاً‏.‏ والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه ‏{‏شقاوتنا‏}‏ بالألف وكسر الشين وهي في جميع ذلك مصدر ومعناها ضد السعادة، وفسرها جماعة بسوء العاقبة التي علم الله تعالى أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم ونسب ذلك لجمهور المعتزلة، وعن الأشاعرة أن المراد بها ما كتبه الله تعالى عليهم في الأزل من الكفر والمعاصي، وقال الجبائي‏:‏ المراد بها الهوى وقضاء اللذات مجازاً من باب إطلاق المسبب على السبب، وأياً ما كان فنسبة الغلب إليها لاعتبار تشبيهها بمن يتحقق منه ذلك ففي الكلام استعارة مكنية تخييلية؛ ولعل الأولى أن يخرج الكلام مخرج التمثيل ومرادهم بذلك على جميع الأقوال في الشقوة الاعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم لأن منشأها على جميع الأقوال عند التحقيق ما هم عليه في أنفسهم فكأنهم قالوا‏:‏ ربنا غلب علينا أمر منشؤه ذواتنا ‏{‏فِيهَا وَكُنَّا‏}‏ بسبب ذلك ‏{‏قَوْماً ضَالّينَ‏}‏ عن الحق مكذبين بما يتلى من الآيات فما تنسب إلى حيف في تعذيبنا، ولا يجوز أن يكون اعتذاراً بما علمه الله تعالى فيهم وكتبه عليهم من الكفر أي غلب علينا ما كتبته علينا من الشقاوة وكنا في علمك قوماً ضالين أو غلب علينا ما علمته وكتبته وكنا بسبب ذلك قوماً ضالين فما وقع منا من التكذيب بآياتك لا قدرة لنا على رفعه وإلا لزم انقلاب العلم جهلاً وهو محال لأن ذلك باطل في نفسه لا يصلح للاعتذار فإنه سبحانه ما كتب إلا ما علم وما علم إلا ما هم عليه في نفس الأمر من سوء الاستعداد المؤدي إلى سوء الاختيار فءن العلم على ما حقق في موضعه تابع للمعلوم، ويؤيد دعوى الاعتراف قوله تعالى حكاية عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون‏}‏ أي ربنا أخرجنا من النار وارجعنا إلى الدنيا فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه فيها من الكفر والمعاصي فإنا متجاوزون الحد في الظلم لأن اجتراءهم على هذا الطلب أوفق بكون ما قبله اعترافاً فإنه كثيراً ما يهون به المذنب غضب من أذنب إليه، والاعتذار وإن كان كذلك بل أعظم إلا أن هذا الاعتذار أشبه شيء بالاعتراض الموجب لشدة الغضب الذي لا يحسن معه الإقدام على مثل هذا الطلب، هذا مع أنهم لو لم يعتقدوا أن ذلك عذر مقبول والاعتذار به نافع لم يقدموا عليه؛ ومع هذا الاعتقاد لا حاجة بهم إلى طلب الإخراج والإرجاع، ولا يقال مثل هذا على تقدير كونه اعترافاً لأنهم إنما قالوه تمهيداً للطلب المذكور لما أنه مظنة تسكين لهب نار الغضب على ما سمعت، ثم إن القول لعلهم ظنوا تغير ما هم عليه من سوء الاستعداد لو عادوا لما شاهدوا من حالهم في ذلك اليوم ولذلك طلبوا ما طلبوا‏.‏

وفي قولهم‏:‏ ‏{‏عُدْنَا‏}‏ إشارة إلى أنهم حين الطلب على الإيمان والطاعة فيكون الموعود على تقدير الرجعة إلى الدنيا الثبات عليهما لينتفعوا بهما بعد أن يموتوا ويحشروا فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ الله سبحانه إقناطاً لهم أشد إقناط ‏{‏اخسئوا فِيهَا‏}‏ أي ذلوا وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ أي انزجر أو اسكتوا سكوت هوان ففيه استعارة مكنية قرينتها تصريحية ‏{‏وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا، وقيل‏:‏ لا تكلمون في رفع العذاب، ولعل الأول أوفق بما قبله وبالتعليل الآتي، وقيل‏:‏ لا تكلمون أبداً وهو آخر كلام يتكلمون به‏.‏

أخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن حذيفة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن الله تعالى إذا قال لأهل النار اخسئوا فيها ولا تكلمون عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه ولا مناخر يتردد النفس في أجوافهم» وأخرج الطبراني‏.‏ والبيهقي في البعث‏.‏ وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد‏.‏ والحاكم وصححه وجماعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ إن أهل جهنم ينادون مالكاً ليقض علينا ربك فيذرهم أربعين عاماً لا يجيبهم ثم يجيبهم ‏{‏إنكم ماثكون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 77‏]‏ ثم ينادون ربهم ‏{‏ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 107‏]‏ فيذرهم مثلي الدنيا لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون قال‏:‏ فما نبس القوم بعدها بكلمة وما هو إلا الزفير والشهيق‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهما عن محمد بن كعب قال‏:‏ لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبداً يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏ فجيبهم الله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلى الكبير‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 12‏]‏ ثم يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏ ثم يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل‏}‏ فيجيبهم الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 44‏]‏ ثم يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏ فيجيبهم الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏ ثم يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 106، 107‏]‏ فيجيبهم الله تعالى‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ فلا يتكلمون بعدها أبداً، وفي بعض الآثار أنهم يلهجون بكل دعاء ألف سنة، ويشكل على هذه الأخبار ظواهر الخطابات الآتية كما لا يخفى ولعلها لا يصح منها شيء وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏أَنَّهُ‏}‏ تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي إن الشأن، وقرأ أبي‏.‏ وهارون العتكي ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ بفتح الهمزة أي لأن الشأن ‏{‏كَانَ‏}‏ في الدنيا التي تريدون الرجعة إليها ‏{‏فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى‏}‏ وهم المؤمنون، وقيل‏:‏ هم الصحابة، وقيل‏:‏ أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم أجمعين‏.‏

‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏فاتخذتموهم سِخْرِيّاً‏}‏ أي هزؤاً أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 109‏]‏ الخ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين خوفاً من هذا اليوم بقولهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ءامَنَّا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 109‏]‏ الخ ‏{‏حتى أَنسَوْكُمْ‏}‏ بتشاغلكم بالاستهزاء بهم ‏{‏ذِكْرِى‏}‏ أي خوف عقابي في هذا اليوم‏.‏

‏{‏وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ‏}‏ وذلك غاية الاستهزاء، وقيل‏:‏ التعليل على معنى إنما خسألناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتم لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكرى بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم، وقيل‏:‏ خلاصة معنى الآية إنه كان فريق من عبادي يدعون فتشاغلتم بهم ساخرين واستمر تشاغلكم باستهزائهم إلى أن جركم ذلك إلى تلك ذكرى في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم، ثم قيل‏:‏ وهذا التذنيب لازم ليصح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 109‏]‏ الخ تعليلاً ويرتبط الكلام ويتلاءم مع قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ‏}‏ ولو لم يرد به ذلك يكون إنساء الذكر كالأجنبي في هذا المقام، وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم كما نبه عليه أولاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنْ عِبَادِىَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 109‏]‏ وختمه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنِى جَزَيْتُهُمُ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمُ الفائزون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 111‏]‏ وزاد في خسئهم بإعزاز أضدادهم انتهى ولا يخلو عن بحث‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏سِخْرِيّاً‏}‏ بضم السين وباقي السبعة بكسرها، والمعنى عليهما واحد وهو الهزؤ عند الخليل‏.‏ وأبي زيد الأنصاري‏.‏ وسيبويه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏.‏ والكسائي‏.‏ والفراء‏:‏ مضموم السين بمعنى الاستخدام من غير أجرة ومكسورها بمعنى الاستهزاء، وقال يونس‏:‏ إذا أريد الاستخدام ضم السين لا غير وإذا أريد الهزؤ جاز الضم والكسر، وهو في الحالين مصدر زيدت فيه ياء النسبة للمبالغة كما في أحمري‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ أي بسبب صبرهم على أذيتكم استئناف لبيان حسن حالهم وأنهم انتفعوا بما آذوهم، وفيه إغاظة لهم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون‏}‏ إما في موضع المفعول الثاني للجزاء وهو يتعدى له بنفسه وبالباء كما قال الراغب أي جزيتهم فوزهم بمجامع مراداتهم كما يؤذن به معمول الوصف حال كونهم مخصوصين بذلك كما يؤذن به توسيط ضمير الفصل وأما في موضع جر بلام تعليل مقدرة أي لفوزهم بالتوحيد المؤدي إلى كل سعادة، ولا يمنع من ذلك تعليل الجزاء بالصبر لأن الأسباب لكونها ليست عللاً تامّة يجوز تعددها‏.‏

وقرأ زيد بن علي‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وخارجة عن نافع ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بالكسر على أن الجملة استئناف معلل للجزاء، وقيل‏:‏ مبين لكيفيته فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ الله تعالى شأنه أو الملك المأمور بذلك لا بعض رؤساء أهل النار كما قيل تذكراً لما لبثوا فيما سألوا الرجعة إليه من الدنيا بعد التنبيه على استحالته وفيه توبيخ على إنكارهم الآخرة، وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وابن كثير ‏{‏قُلْ‏}‏ على الأمر للملك لا لبعض الرؤساء كما قيل ولا لجميع الكفار على إقامة الواحد مقام الجماعة كما زعمه الثعالبي ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارض‏}‏ التي تدعون أن ترجعوا إليها أي كم أقمتم فيها أحياء ‏{‏عَدَدَ سِنِينَ‏}‏ تمييز لكم وهي ظرف زمان للبثتم، وقال‏:‏ أبو البقاء ‏{‏عَدَدًا‏}‏ بدل من ‏{‏كَمْ‏}‏، وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم ‏{‏عَدَدًا‏}‏ بالتنوين فقال أبو الفضل الرازي ‏{‏سِنِينَ‏}‏ نصب على الظرف ‏{‏وعدداً‏}‏ مصدر أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدم على المنعوت، وتجويز أن يكون معنى ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ‏}‏ عددتم بعيد، وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏سِنِينَ‏}‏ على هذه القراءة بدل من ‏{‏عَدَدًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ استقصاراً لمدة لبثهم بالنسبة إلى ما تحققوه من طول زمان خلودهم في النار، وقيل‏:‏ استقصروها لأنها كانت أيام سرورهم بالنسبة إلى ما هم فيه وأيام السرور قصار، وقيل‏:‏ لأنها كانت منقضية والمنقضى لا يعتني بشأنه فلا يدري مقداره طولاً وقصراً فيظن أنه كان قصيراً ‏{‏فَاسْأَلِ العادين‏}‏ أي المتمكنين من العد فإنا بما دهمنا من العذاب بمعزل من ذلك أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم على ما رواه جماعة عن مجاهد‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ والكسائي في رواية ‏{‏العادين‏}‏ بتخفيف الدال أي الظلمة فإنهم يقولون كما نقول كان الأتباع يسمون الرؤساء بذلك لظلمهم إياهم بإضلالهم‏.‏ وقرىء ‏{‏العاديين‏}‏ بتشديد الياء جمع عادي نسبة إلى قوم عاد والمراد بهم المعمرون لأن قوم عاد كانوا يعمرون كثيراً أي فاسئل القدماء المعمرين فإنهم أيضاً يستقصرون مدة ليثهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ‏}‏ أي الله تعالى أو الملك‏.‏ وقرأ الأخوان ‏{‏قُلْ‏}‏ على الأمر كما قرآ فيما مر كذلك‏.‏

وفي «الدر المصون» الفعلان في مصاحف الكوفة بغير ألف وبألف في مصاحف مكة‏.‏ والمدينة‏:‏ والشام‏.‏ والبصرة، ونقل مثله عن ابن عطية، وفي «الكشاف» عكس ذلك وكأن الرسم بدون ألف يحتمل حذفها من الماضي على خلاف القياس وفي رسم المصحف من الغرائب ما لا يخفى فلا تغفل‏.‏

‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ‏}‏ أي ما لبثتم ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ تصديق لهم في مقالتهم ‏{‏لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي تعلمون شيئاً أو لو كنتم من أهل العلم، و‏{‏لَوْ‏}‏ شرطية وجوابها محذوف ثقة بدلالة الكلام عليه أي لو كنتم تعلمون لعلمتم يومئذٍ قصر أيام الدنيا كما علمتم اليوم ولعملتم بموجب ذلك ولم يصدر منكم ما أوجب خلودكم في النار وقولنا لكم‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ وقيل المعنى لو كنتم تعلمون قلة لبثكم في الدنيا بالنسبة للآخرة ما اغتررتم بها وعصيتم، وكأن نفي العلم بذلك عنهم على هذا لعدم عملهم بموجبه ومن لم يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء‏.‏

وقدر أبو البقاء الجواب لما أجبتم بهذه المدة، ولعله يجعل الكلام السابق رداً عليهم لا تصديقاً وإلا لا يصح هذا التقدير، وجوز أن تكون ‏{‏لَوْ‏}‏ للتمني فلا تحتاج لجواب، ولا ينبغي أن تجعل وصلية لأنها بدون الواو نادرة أو غير موجودة، هذا وقال غير واحد من المفسرين‏:‏ المراد سؤالهم عن مدة لبثهم في القبور حيث أنهم كانوا يزعمون أنهم بعد الموت يصيرون تراباً ولا يقومون من قبورهم أبداً‏.‏

وزعم ابن عطية أن هذا هو الأصوب وأن قوله سبحانه فيما بعد‏:‏ ‏{‏وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ يقتضيه وفيه منع ظاهر، ويؤيد ما ذهبنا إليه ما روي مرفوعاً ‏"‏ أن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال‏:‏ يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قال‏:‏ لنعم ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين ثم يقول‏:‏ يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فيقول بئسما أنجزتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين ‏"‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً‏}‏ أي ألم تعلموا شيئاً فحسبتم أنما خلقناكم بغير حكمة حتى أنكرتم البعث فعبثاً حال من نون العظمة أي عابثين أو مفعول له أي أفحسبتم أنما خلقناكم للعبث وهو ما خلا عن الفائدة مطلقاً أو عن الفائدة المعتد بها أو عما يقاوم الفعل كما ذكره الأصوليون‏.‏

واستظهر الخفاجي إرادة المعنى الأول هنا واختار بعض المحققين الثاني ‏{‏وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ عطف على ‏{‏أَنَّمَا خلقناكم‏}‏ أي أفحسبتم ذلك وحسبتم أنكم لا تبعثون‏.‏

وجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏عَبَثاً‏}‏ والمعنى أفحسبتم أنما خلقناكم للعبث ولترككم غير مرجوعين أو عابثين ومقدرين أنكم إلينا لا ترجعون، وفي الآية توبيخ لهم على تغافلهم وإشارة إلى أن الحكمة تقتضي تكليفهم وبعثهم للجزاء‏.‏ وقرأ الأخوان ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ بفتح التاء من الرجوع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏فتعالى الله‏}‏ استعظام له تعالى ولشؤونه سبحانه التي يصرف عليها عباده جل وعلا من البدء والإعادة والإثابة والعقاب بموجب الحكمة البالغة أي ارتفع سبحانه بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله وعن خلو أفعاله عن الحكم والمصالح الحميدة‏.‏

‏{‏الملك الحق‏}‏ أي الحقيق بالمالكية على الإطلاق إيجاداً وإعداماً بدأ وإعادة إحياء وإماتة عقاباً وإثابة وكل ما سواه مملوك له مقهور تحت ملكوتيته، وقيل‏:‏ الحق أي الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه، وهذا وإن كان أشهر إلا أن الأول أوفق بالمقام ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ فإن كل ما عداه عبيده تعالى‏:‏ ‏{‏رَبُّ العرش الكريم‏}‏ وهو جرم عظيم وراء عالم الأجسام والأجرام وهو أعظمها وقد جاء في وصف عظمه ما يبهر العقول فيلزم من كونه تعالى ربه كونه سبحانه رب كل الأجسام والأجرام، ووصف بالكريم لشرفه وكل ما شرف في بابه وصف بالكرم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 26‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ إلى غير ذلك‏.‏

وقد شرف بما أودع الله تعالى فيه من الأسرار، وأعظم شرف له تخصيصه باستوائه سبحانه عليه، وقيل إسناد الكرم إليه مجازي والمراد الكريم ربه أو المراد ذلك على سبيل الكناية، وقيل‏:‏ هو على تشبيه العرش لنزول الرحمة والبركة منه بشخص كريم ولعل ما ذكرناه هو الأظهر‏.‏

وقرأ أبان بن تغلب‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وإسماعيل عن ابن كثير ‏{‏الكريم‏}‏ بالرفع على أنه صفة الرب، وجوز أن يكون صفة للعرش على القطع وقد يرجح بأنه أوفق بقراءة الجمهور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَدْعُ‏}‏ أي يعبد ‏{‏مَعَ الله‏}‏ أي مع وجوده تعالى وتحققه سبحانه ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ‏}‏ إفراداً أو إشراكاً أو من يعبد مع عبادة الله تعالى إلهاً آخر كذلك، ويتحقق هذا في الكافر إذا أفرد معبوده الباطل بالعبادة تارة وأشركه مع الله تعالى أخرى، وقد يقتصر على إرادة الإشراك في الوجهين ويعلم حال من عبد غير الله سبحانه إفراداً بالأولى‏.‏

وذكر ‏{‏ءاخَرَ‏}‏ قيل إنه للتصريح بألوهيته تعالى وللدلالة على الشريك فيها وهو المقصود فليس ذكره تأكيداً لما تدل عليه المعية وإن جوز ذلك فتأمل‏.‏

نعم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ‏}‏ صفة لازمة لإلها لا مقيدة جىء بها للتأكيد، وبناء الحكم المستفاد من جزاء الشرط من الوعيد بالجزاء على قدر ما يستحق تنبيهاً على أن التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلاً عما دل الدليل على خلافه، ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء جىء به للتأكيد كما في قولك‏:‏ من أحسن إلى زيد لا أحق منه بالإحسان فالله تعالى مثيبه‏.‏

ومن الناس من زعم أنه جواب الشرط دون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ‏}‏ وجعله تفريعاً على الجملة وليس بصحيح لأنه يلزم عليه حذف الفاء في جواب الشرط ولا يجوز ذلك كما قال أبو حيان إلا في الشعر‏.‏

والحساب كناية عن المجازاة كأنه قيل‏:‏ من يعبد إلهاً مع الله تعالى فالله سبحانه مجاز له على قدر ما يستحقه ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون‏}‏ أي إن الشأن لا يفلح الخ‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وقتادة ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ بالفتح على التعليل أو جعل الحاصل من السبك خبر ‏{‏حِسَابُهُ‏}‏ أي حسابه عدم الفلاح، وهذا على ما قال الخفاجي من باب‏:‏ تحية بينهم ضرب وجيع *** وبهذا مع عدم الاحتياج إلى التقدير رجح هذا الوجه على سابقه وتوافق القراءتين عليه في حاصل المعنى، ورجح الأول بأن التوافق عليه أتم، وأصل الكلام على الأخبار فإنما حسابه عند ربه أنه لا يفلح هو فوضع ‏{‏الكافرون‏}‏ موضع الضمير لأن ‏{‏مِنْ يَدُعُّ‏}‏ في معنى الجمع وكذلك حسابه أنه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏يُفْلِحُ‏}‏ بفتح الياء واللام، وما ألطف افتتاح هذه السورة بتقدير فلاح المؤمنين وإيراد عدم فلاح الكافرين في اختتامها، ولا يخفى ما في هذه الجمل من تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه سبحانه بعد ما سلاه بذكر مآل من لا ينجع دعاؤه فيه أمره بما يرمز إلى متاركة مخالفيه فقال جل وعلا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُل رَّبّ‏}‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏رَبّ‏}‏ بالضم ‏{‏اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الرحمين‏}‏ والظاهر أن طلب كل من المغفرة والرحمة على وجه العموم له عليه الصلاة والسلام ولمتبعيه وهو أيضاً أعم من طلب أصل الفعل والمداومة عليه فلا إشكال، وقد يقال في دفعه غير ذلك، وفي تخصيص هذا الدعاء بالذكر ما يدل على أهمية ما فيه، وقد علم صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن يقول نحوه في صلاته‏.‏

فقد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وابن حبان‏.‏ وجماعة عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال‏:‏ «قل اللهم أني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» ولقراءة هذه الآيات أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ إلى آخر السورة على المصاب نفع عظيم وكذا المداومة على قراءة بعضها في السفر‏.‏

أخرج الحكيم الترمذي‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وأبو نعيم في الحلية وآخرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ في أذن مصاب ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ «والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال»‏.‏

وأخرج ابن السني‏.‏ وابن منده‏.‏ وأبو نعيم في المعرفة بسند حسن من طريق محمد بن إبراهيم بن الحرث التميمي عن أبيه قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ فقرأناها فغنمنا وسلمنا هذا والله تعالى المسؤول لكل خير‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ قيل ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1 أي وصلوا إلى المحل الأعلى والقربة والسعادة ‏{‏الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 2‏]‏ ظاهراً وباطناً، والخشوع في الظاهر انتكاس الرأس والنظر إلى موضع السجود وإلى ما بين يديه وترك الالتفات والطمأنينة في الأركان ونحو ذلك، والخشوع في الباطن سيكون النفس عن الخواطر والهواجس الدنيوية بالكلية أو ترك الاسترسال معها وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكونات واستغراق الروح في بحر المحبة، والخشوع شرط لصحة الصلاة عند بعض الخواص نقل الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي من لم يخشع فسدت صلاته وهو قول لبعض الفقاء وتفضيله في كتبهم، ولا خلاف في أنه لا ثواب في قول أو فعل من أقوال أو أفعال الصلاة أدى مع الغفلة؛ وماأقبح مصل يقول ‏{‏الحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏ وهوغافل عن الرب جل شأنه متوجه بشراشره إلى الدرهم والدينار ثم يقول‏:‏

‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ وليس في قلبه وفكره غيرهما، ونحو هذا كثير، ومن هنا قال الحسن‏:‏ كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع‏.‏

وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن أفترى مثل صلاة هذا تصلح لذلك حاش لله تعالى من زعم ذلك فقد افترى ‏{‏والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 3‏]‏ قال بعضهم‏:‏ اللغو كل ما يشغل عن الحق عز وجل‏.‏

وقال أبو عثمان‏:‏ كل شيء فيه للنفس حظ فهو لغو، وقال أبو بكر بن طاهر‏:‏ كل ما سوى الله تعالى فهو لغو ‏{‏والذين هُمْ للزكواة فاعلون‏}‏ هي تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة ‏{‏والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 5، 6‏]‏ إشارة إلى استيلائهم على القوة الشهوية فلا يتجاوزون فيها ما حد لهم، وقيل‏:‏ الإشارة فيه إلى حفظ الأسرار أي والذي هم ساترون لما يقبح كشفه من الأسرار عن الأغيار إلا على أقرانهم ومن ازدوج معهم أو على مريديهم الذين هم كالعبيد لهم ‏{‏والذين هُمْ لاماناتهم‏}‏‏.‏

قال محمد بن الفضل‏:‏ سائر جوارحهم ‏{‏وَعَهْدِهِمْ‏}‏ الميثاق الأزلي ‏{‏راعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 8‏]‏ فهم حسنو الأفعال والأقوال والاعتقادات ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ فيؤدونها بشرائطها ولا يفعلون فيها وبعدها ما يضيعها كارياء والعجب ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏ قيل المخلوق من ذلك هو الهيكل المحسوس وأما الروح فهي مخلوقة من نور إلهي يعز على العقول إدراك حقيقته، وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏ إشارة إلى نفخ تلك الروح المخلوقة من ذلك النور وهي الحقيقة الآدمية المرادة في قوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏خَلَقَ الله تَعَالَى ءادَمَ على‏}‏ أي على صفته سبحانه من كونه حياً عالماً مريداً قادراً إلى غير ذلك من الصفات ‏{‏تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 17‏]‏ إشارة إلى مراتب النفس التي بعضها فوق بعض وكل مرتبة سفلى منها تحجب العليا أو إشارة إلى حجب الحواس الخمس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال، وقيل غير ذلك ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء‏}‏ قيل أي سماء العناية ‏{‏مَاء‏}‏ أي ماء الرحمة ‏{‏بِقَدَرٍ‏}‏ أي بمذار استعداد السالك ‏{‏فَأَسْكَنَّاهُ فِى الارض‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 18‏]‏ أي أرض وجوده ‏{‏فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جنات مّن نَّخِيلٍ‏}‏ أي نخيل المعارف ‏{‏وأعناف‏}‏ أي أعناب الكشوف، وقيل النخيل إشارة إلى علوم الشريعة والأعناب إشارة إلى علوم الطريقة ‏{‏وأعناب لَّكُمْ فِيهَا فواكه كَثِيرَةٌ‏}‏ هي ما كان منها زائداً على الواجب ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 19‏]‏ إشارة إلى ما كان واجباً لا يتم قوام الشريعة والطريقة بدونه ‏{‏وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء‏}‏ إشارة إلى النور الذي يشرق من طور القلب بواسطة ما حصل له من التجلي الإلهي

‏{‏تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لّلاكِلِيِنَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏ أي تنبت بالجامع لهذين الوصفين وهو الاستعداد، والآكلين إشارة إلى المغدين بأطعمة المعارف ‏{‏ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ السيئة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 96‏]‏ فيه من الأمر بمكارم الأخلاق ما فيه ‏{‏وَقُل رَّبّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الرحمين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 118‏]‏ فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الاغترار بالأعمال وإرشاد إلى التشبث برحمة الملك المتعال، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته ويغفر لنا ما ارتكبناه من مخالفته ويتفضل علينا بأعظم مما نؤمله من رحمته كرامة لنبيه الكريم وحبيبه الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله تعالى عليه وعلى له وصحبه وسلم وشرف وعظم وكرم‏.‏

‏[‏سورة النور‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

الرَّحيم‏}‏ ‏{‏‏}‏ ‏{‏سُورَةٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هذه سورة وأشير إليها بهذه تنزيلاً لها منزلة الحاضر المشاهد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنزلناها‏}‏ مع ما عطف عليه صفات لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة من حيث الذات بالفخامة من حيث الصفات على ما ذكره شيخ الإسلام، والقول بجواز أن تكون للتخصيص احترازاً عما هو قائم بذاته تعالى ليس بشيء أصلاً كما لا يخفى‏.‏

وجوز أن تكون ‏{‏سُورَةٌ‏}‏ مبتدأ محذوف الخبر أي مما يتلى عليكم أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها الخ، وذكر بعضهم أنه قصد من هذه الجملة الامتنان والمدح والترغيب لا فائدة الخبر ولا لازمها وهو كون المخبر عالماً بالحكم للعلم بكل ذلك، والكلام فيما إذا قصد به مثل هذا إنشاء على ما اختاره في «الكشف» وهو ظاهر قول الإمام المرزوقي في قوله‏:‏ قومي هموا قتلوا أميم أخي *** هذا الكلام تحزن وتفجع‏.‏

وليس بأخبار، واختار رخرون أن الجملة خبرية مراد بها معناها إلا أنها إنما أوردت لغرض سوى إفادة الحكم أو لازمه وإليه ذهب السالكوتي، وأول كلام المرزوقي بأن المراد بالأخبار فيه الإعلام، وتحقيق ذلك في موضعه‏.‏ واعترض شيخ الإسلام هذا الوجه بما بحث فيه‏.‏

وجوز ابن عطية أن تكون ‏{‏سُورَةٌ‏}‏ مبتدأ والخبر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزانية والزانى‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ الخ وفيه من البعد ما فيه والوجه الوجيه هو الأول، وعندي في أمثال هذه الجملة أن الإثبات فيها متوجه إلى القيد، وقد ذكر ذلك الشيخ عبد القاهر وهو هنا إنزالها وفرضها، وإنزال آيات بينات فيها لأجل أن يتذكر المخاطبون أو رجوا تذكرهم فتأمل‏.‏

وقرأ عمر بن عبد العزيز‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعيسى بن عمر الثقفي البصري‏.‏ وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ ومحبوب عن أبي عمرو‏.‏ وأم الدرداء ‏{‏سُورَةٌ‏}‏ بالنصب على أنها مفعول فعل محذوف أي اتل، وقدر بعضهم اتلوا بضمير الجمع ون الخطابات الآتية بعهد كذلك وليس بلازم لأن الفعل متضمن معنى القول فيكون الكلام حينئذ نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَطِيعُواْ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 32‏]‏ ولا شك في جوازه‏.‏

وجوز الزمخشري أن تكون نصباً على الإغراب أي دونك سورة، ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء لضعفها في العمل لما أن عملها بالحمل على الفعل، وكلام ابن مالك يقتضي جوازه وزعم إنه مذهب سيبويه وفيه بحث، وجوز غير واحد كون ذلك من باب الاشتغال وهو ظاهر على مذهب من لا يشترط في المنصوب على الاشتغال صحة الرفع على الابتداء وأما على مذهب من يشترط ذلك فغير ظاهر لأن ‏{‏سُورَةٌ‏}‏ نكرة لا مسوغ لها فلا يجوز رفعها على الابتداء، ولعل من يشترط ذلك ويقول بالنصب على الاشتغال هنا يجعل النكرة موصوفة بما يدل عليه التنوين كأنه قيل‏:‏ سورة عظيمة كما قيل في شر أهر ذا ناب‏.‏

وقال الفراء‏:‏ نصب ‏{‏سُورَةٌ‏}‏ على أنها حال من ضمير النصب في ‏{‏أنزلناها‏}‏ والحال من الضمير يجوز أن يتقدم عليه انتهى، ولعل الضمير على هذا للأحكام المفهومة من الكلام فكأنه قيل‏:‏ أنزلنا الأحكام سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن وإلى هذا ذهب في البحر، وربما يقال‏:‏ يجوز أن يكون الضمير للسورة الموجودة في العلم من غير ملاحظة تقييدها بوصف، و‏{‏سُورَةٌ‏}‏ المذكورة موصوفة بما يدل عليه تنوينها فكأنه قيل‏:‏ أنزلنا السورة حال كونها سورة عظيمة، ولا يخفى أن كل ذلك تكلف لا داعي إليه مع وجود الوجه الذي لا غبار عليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفرضناها‏}‏ إما على تقدير مضاف أي فرضنا أحكامها وإما على اعتبار المجاز في الإسناد حيث أسند ما للمدلول للدال لملابسة بينهما‏.‏ تشبه الظرفية، ويحتمل على بعد أن يكون فـ يالكلام استخدام بأن يراد بسورة معناها الحقيقي وبضميرها معناها المجازي أعني الأحكام المدلول عليها بها، والفرض في الأصل قطع الشيء الصلب والتأثير فيه، والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه فكأنه قيل‏:‏ أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً وفي ذكر ذلك براعة استهلال على ماقيل‏.‏

وقرأ عبد الله‏.‏ وعمر بن عبد العزيز‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وابن كثير ‏{‏وفرضناها‏}‏ بتشديد الراء لتأكيد الإيجاب، والإشارة إلى زيادة لزومه أو لتعدد الفرائض وكثرتها أو لكثرة المفروض عليهم من السلف والخلف‏.‏ وفي «الحواشي الشهابية» قد فسر ‏{‏فرضناها‏}‏ بفصلناها ويجري فيه ما ذكر أيضاً ‏{‏وفرضناها وَأَنزَلْنَا فِيهَا‏}‏ أي في هذه السورة ‏{‏ءايات بَيّنَاتٍ‏}‏ يحتمل أن يراد بها الآيات التي نيطت بها الأحكام المفروضة وأمر الظرفية عليه ظاهر، ومعنى كونها بينات وضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها مطلقاً لأنها أسوة لأكثر الآيات في ذلك، وتكرير ‏{‏أَنزَلْنَا‏}‏ مع استلزام إنزال السورة إنزالها إبراز كمال العناية بشأنها، ويحتمل أن يراد بها جميع آيات السورة والظرفية حينئذ باعتبار اشتمال الكل على كل واحد من أجزائه، ومعنى كونها بيناته أنها لا أشكال فيها يحوج إلى تأويل كبعض الآيات، وتكرير ‏{‏أَنزَلْنَا‏}‏ مع ظهور أن إنزال جميع الآيات عين إنزال السورة لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيص إنزالها بالذكر إبانة لخطرها ورفعاً لمحلها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 58‏]‏ بعد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا‏}‏ والاحتمال الأول أظهر، وقال الإمام‏:‏ إنه تعالى ذكر في أول السورة أنواعاً من الأحكام والحدود وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرضناها‏}‏ إشارة إلى الأحكام المبينة أولاً، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الرحمين سُورَةٌ أنزلناها وفرضناها وَأَنزَلْنَا‏}‏ إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد ويؤيده قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى يتذكرونها انتهى، وهو عندي وجه حسن، نعم قيل فيما ذكره من التأييد نظر إذ لمن ذهب إلى الاحتمال الأول أن يقول‏:‏ المراد من التذكر غايته وهو اتقاء المحارم بالعمل بموجب تلك الآيات، ولقائل أن يقول‏:‏ إن هذا محوج إلى ارتكاب المجاز في التذكرة دون ما ذكره الإمام فإن التذكر عليه على معناه المتبادر ويكفي هذا القدر في كونه مؤيداً، وأصل ‏{‏تَذَكَّرُونَ‏}‏ تتذكرون حذف إحدى التاءين وقرىء بإدغام الثانية منهما في الذال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الزانية والزانى‏}‏ شروع في تفصيل الأحكام التي أشير إليها أولاً، ورفع ‏{‏الزانية‏}‏ على أنها خبر مبتدأ محذوف والكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل ما يتلى عليكم أو في الفرائض أي المشار إليها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفرضناها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 1‏]‏ حكم الزانية والزاني، والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ‏}‏ سببية وقيل سيف خطيب، وذهب الفراء‏.‏ والمبرد‏.‏ والزجاج إلى أن الخبر جملة ‏{‏فاجلدوا‏}‏ الخ، والفاء في المشهور لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ اللام فيه وفيما عطف عليه موصولة أي التي زنت والذي زنى فاجلدوا الخ، وبعضهم يجوز دخول الفاء في الخبر إذ كان في المبتدأ معنى يستحق به أن يترتب عليه الخبر وإن لم يكن هناك موصول كما في قوله‏:‏

وقائلة خولان فانكح فتاتهم *** فإن هذه القبيلة مشهورة بالشرف والحسن شهرة حاتم بالسخاء وعنترة بالشجاعة وذلك معنى يستحق به أن يترتب عليه الأمر بالنكاح وعلى هذا يقوى أمر دخول الفاء هنا كما لا يخفى، وقال العلامة القطب‏:‏ جيء بالفاء لوقوع المبتدأ بعد أما تقديراً أي أما الزانية والزاني فاجلدوا الخ، ونقل عن الأخفش أنها سيق خطيب، والداعي لسيبويه على ما ذهب إليه ما يفهم من الكتاب كما قيل من أن النهج المألوف في كلام العرب إذا أريد بيان عنى وتفصيله اعتناء بشأنه أن يذكر قبله ماهو عنوان وترجمة له وهذا لا يكون إلا بأن يبني على جملتين فما ذهب إليه في الآية أولى لذلك مما ذهب إليه غيره، وأيضاً هو سالم من وقوع الإنشاء خبراً والدغدغة التي فيه، وأمر الفاء عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف، وقال أبو حيان‏:‏ سبب الخلاف أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولاً بما يقبل مباشرة أداة الشرط وغيرهما لا يشترط ذلك‏.‏

وقرأ عبد الله ‏{‏والزان‏}‏ بلا ياء تخفيفاً‏.‏ وقرأ عيسى الثقفى‏.‏ ويحيى بن يعمر‏.‏ وعمرو بن قائد‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة وأبو السمال‏.‏ ورويس ‏{‏تَذَكَّرُونَ الزانية والزانى‏}‏ بنصبهما على إضمار فعل يفسره الظاهر، والفاء على ما قال ابن جني لأن مآل المعنى إلى الشرط والأمر في الجواب يقترن بها فيجوز زيداً فاضربه لذلك ولا يجوز زيداً فضربته بالفاء لأنها لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضياً‏.‏

والمراد هنا على ما في بعض «شروح الكشاف» إن أردتم معرفة حكم الزانية والزاني فاجلدوا الخ، وقيل‏:‏ إن جلدتم الزانية والزاني فاجلدوا الخ وهو لا يدل على الوجوب المراد؛ وقيل دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الاجمال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏ ويجوز أن تكون عاطفة والمراد جلد بعد جلد وذلك لا ينافي كونه مفسراً للمعطوف عليه لأنه باعتبار الاتحاد النوعي انتهى‏.‏

وأنت تعلم أنه لم يعهد العطف بالفاء فيما اتحد فيه لفظ المفسر والمفسر وقد نصوا على عدم جواز زيداً فضربته بالاتفاق فلو ساغ العطف فيما ذكر لجاز هذا على معنى ضرب بعد ضرب، على أن كون المراد فيما نحن فيه جلد بعد جلد مما لا يخفى ما فيه فالظاهر ما نقل عن ابن جني، والمشهور أن سيبويه‏.‏ والخليل يفضلان قراءة النصب لمكان الأمر، وغيرهما من البصريين والكوفيين يفضلون الرفع لأنه كالإجماع في القراءة وهو أقوى في العربية لأن المعنى عليه من زنى فاجلدوه كذا قال الزجاج، وقال الخفاجي بعد نقله كلام سيبويه في هذا المقام‏:‏ ليس في كلام سيبويه شيء مما يدل على التفضيل كما سمعت بل يفهم منه أن الرفع في نحو ذلك أفصح وأبلغ من النصب من جهة المعنى وأفصح من الرفع على أن الكلام جملة واحدة من جهة المعنى واللفظ معاً فليراجع وليتأمل‏.‏ والجلد ضرب الجلد وقد اطرد صوغ فعل المفتوح العين الثلاثي من أسماء الأعيان فيقال رأسه وظهره وبطنه إذا ضرب رأسه وظهره وبطنه، وجوز الراغب أن يكون معنى جلده ضربه بالجلد نحو عصاه ضربه بالعصا، والمراد هنا المعنى الأول فإن الأخبار قد دلت على أن الزانية والزاني يضربان بسوط لا عقدة عليه ولا فرع له، وقيل‏:‏ إن كون الجلد بسوط كذلك كان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة وأما قبله فكان تارة باليد وتارة بالنعل وتارة بالجريد الرطبة وتارة بالعصا، ثم الظاهر من ضرب الجلد أعم من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة، وزعم بعضهم وليس بشيء أن الظاهر أن يكون بلا واسطة وأنه ربما يستأنس به لما ذهب إليه أصحابنا وبه قال مالك من أنه ينزع عن الزاني عند الجلد ثيابه إلا الإزار فإنه لا ينزع لستر عورته به، وعن الشافعي، وأحمد أنه يترك عليه قميص أو قميصان، وروى عبد الزراق بسنده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى برجل في حد فضربه وعليه كساء قسطلاني، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد، وأما الإمرأة فلا ينزع عنها ثيابها عندنا إلا الفرو والمحشو ووجهه ظاهر‏.‏

وفي بعض الأخبار ما يدل على أن الرجل والمرأة في عدم نزع الثياب إلا الفرو والمحشو سواء، وكأن من لا يقول بنزع الثياب يقول‏:‏ إن الجلد في العرف الضرب مطلقاً وليس خاصاً بضرب الجلد بلا واسطة، نعم ربما يقال‏:‏ إن في اختياره على الضرب إشارة إلى أن المراد ضرب يؤلم الجلد وكأنه لهذا قيل ينزع الفرو والمحشو فإن الضرب في الأغلب لا يؤلم جلد من عليه واحد منهما، وينبغي أن لا يكون الضرب مبرحاً لأن الإهلاك غير مطلوب، ومن هنا قالوا‏:‏ إن كان من وجب عليه الحد ضعيف الخلقة فخيف عليه الهلاك يجلد جلداً ضعيفاً يحتمله، وكذا قالوا‏:‏ يفرق الضرب على أعضاء المحدود لأن جمعه في عضو قد يفسده وربما يفضي إلى الهلاك، وينبغي أن يتقى الوجه والمذاكير لما روى موقوفاً على علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى برجل سكران أو في حد فقال‏:‏ اضرب واعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير، وكذا الرأس لأنه مجمع الحواس الباطنة فربما يفسد وهو إهلاك معنى، وكان أبو يوسف يقول باتقائه ثم رجع وقال يضرب ضربة واحدة، وروى عنه أنه استثنى البطن والصدر وفيه نظر إلا أن يقال‏:‏ كان الضرب في زمانه كالضرب الذي يفعله ظلمة زماننا وحيئنذ ينبغي أن يقول باستثناء الرأس قطعاً، وعن مالك أنه خص الظهر وما يليه بالجلد لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية

«البينة وإلا فحد في ظهرك» وأجيب بأن المراد بالظهر فيه نفسه أي فحد ثابت عليك بدليل ما ثبت عن كبار الصحابة من عمر‏.‏ وعلي‏.‏ وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه» فإنه في نحو الحد فما سواه داخل في الضرب، ثم خص منه الفرج بدليل الاجماع، وعن محمد في التعزير ضرب الظهر وفي الحدود ضرب الأعضاء، ثم هذا الضرب يكون للرجل قائماً غير ممدود وللمرأة قاعدة وجاء ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه، وكأن وجهه أن مبنى الحد على التشهير زجراً للعامة عن مثله والقيام أبلغ فيه، والمرأة مبنى أمرها على الستر فيكتفي بتشهير الحد فقد من غير زيادة، وإن امتنع الرجل ولم يقف أو لم يصبر فلا بأس بربطه على أسطوانة أو إمساك أحد له، والمراد من العدد المفروض في جلد كل واحد منهما أعني مائة جلدة مايقال له مائة جلدة بوجه من الوجوه وإن لم تتعين الأولى والثانية والثالثة وهكذا إلى تمام المائة فلو ضربه مائة رجل بمائة سوط دفعة واحدة كفى في الحد بل قالوا‏:‏ جاز أن تجمع الأسواط فيضرب مرة واحدة بحيث يصيبه كل واحد منها وروى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه ضرب في حد بسوط له طرفان أربعين ضربة فحسب كل ضربة بضربتين، وقدمت الزانية على الزاني مع أن العادة تقديم الزاني عليها لأنها هي الأصل إذ الباعثة فيها أقوى ولولا تمكينها لم يزن، واشتقاقهما من الزنا وهو مقصور في اللغة الفصحى وهي لغة أهل الحجاز وقد يمد في لغة أهل نجد وعليها قال الفرزدق‏:‏

أبا طاهر من يزن يعرف زناؤه *** ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكراً

والزنا في عرف اللغة والشرع على ما قيل وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهة الملك، وفيه أنه يرد عليه زنى المرأة فإنه زنى ولا يصدق عليه التعريف، وما قيل في الجواب عنه‏:‏ إنه فعل الوطىء أمر مشترك بين الرجل والمرأة فإذا وجد بينهما يتصف كل منهما به وتسمى هي واطئة ولذا سماها سبحانه وتعالى زانية ولا يخفى ما فيه مع أن في التعريف ما لا يصلحه هذا الجواب لو كان صحيحاً‏.‏ والحق أن زناها لغة تمكينها من زنى الرجل بها وأنه إذا أريد تعريف الزنا المراد في الآية بحيث يشمل زناها فلا بد من زيادة التمكين بالنسبة إليها بل زيادته بالنسبة إلى كل منهما وأن يقال‏:‏ هو إدخال المكلف الطائع قدر حشفته قبل مشتهاة حالاً أو ماضياً بلا ملك أو شبهة أو تمكينه من ذلك أو تمكينها في دار الإسلام ليصدق على ما لو كان مستلقياً فقعدت على ذكره فتركها حتى أدخلته فإنهما يحدان في هذه الصورة وليس الموجود منه سوى التمكين، ويعلم من هذا التعريف أنه لا حل على الصبي‏.‏ والمجنون‏.‏ ومن أكرهه السلطان، ولا على من أولج في دبر أو في فرج صغيرة غير مشتهاة أو ميتة أو بهيمة بخلاف من أولج في فرج عجوز، ولا على من زنى في دار الحرب، ولا على من زنى مع شبهة، وفي بعض ما ذكر كلام يطلب من كتب الفقه، والحكم عام فيمن زنى وهو محصن وفي غيره لكن نسخ في حق المحصن قطعاً فإن الحكم في حقه الرجم، ويكفينا في تعيين الناسخ القطع بأمره صلى الله عليه وسلم بالرجم وفعله في زمانه عليه الصلاة والسلام مرات فيكون من نسخ الكتاب بالسنة القطعية‏.‏

وقد اجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن تقدم من السلف وعلماء الأمة وأئمة المسلمين على أن المحصن يرجم بالحجارة حتى يموت، وإنكار الخوارج ذلك باطل لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فجعل مركب، وإن أنكروا وقوعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس مما نحن فيه لأن ثبوت الرجم منه عليه الصلاة والسلام متواتر المعنى كشجاعة علي كرم الله تعالى وجهه وجود حاتم، والآحاد في تفاصيل صوره وخصوصياته وهم كسائر المسلمين يوجبون العمل بالتواتر معنى كالمتواتر لفظاً إلا أن انحرافهم عن الصحابة والمسلمين وترك التردد إلى علماء المسلمين والرواة أوقعهم في جهالات كثيرة لخفاء السمع عنهم والشهرة، ولذا حين عابوا على عمر بن عبد العزيز في القول بالرجم من كونه ليس في كتاب الله تعالى ألزمهم بإعداد الركعات ومقادير الزكوات فقالوا‏:‏ ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فقال لهم‏:‏ وهذا أيضاً كذلك، وقد كوشف بهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وكاشف بهم حيث قال كما روى البخاري‏:‏ خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل‏:‏ لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى عز وجل فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وروى أبو داود أنه رضي الله تعالى عنه خطب وقال‏:‏

«إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه كتاباً فكان فيما أنزل عليه آية الرجم يعني بها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نكالا مّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ فقرأناها ووعيناها إلى أن قال وإني خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل‏:‏ لا نجد الرجم» الحديث بطرقه، وقال‏:‏ لولا أن يقال‏:‏ إن عمر زاد في الكتاب لكتبتها على حاشية المصحف الشريف‏.‏ ومن الناس من ذهب إلى أن الناسخ الآية المنسوخة التي ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه‏.‏

وقال العلامة ابن الهمام‏:‏ إن كون الناسخ السنة القطعية أولى من كون الناسخ ما ذكر من الآية لعدم القطع بثبوتها قرآناً، ثم نسخ تلاوتها وإن ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه وسكت الناس فإن كون الإجماع السكوتي حجة مختلف فيه وبتقدير حجيته لانقطع بأن جميع المجتهدين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذ ذاك حضوراً ثم لا شك في أن الطريق في ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه ظني ولهذا والله تعالى أعلم قال علي كرم الله تعالى وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها‏:‏ جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلل الرجل بالقرآن المنسوخ التلاوة، ويعلم من قوله المذكور كرم الله تعالى وجهه أنه قائل بعدم نسخ عموم الآية فيكون رأيه أن الرجم حكم زائد في حق المحصن ثبت بالسنة وبذلك قال أهل الظاهر وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الثيب بالثيب جلد مائة ورمي الحجارة» وفي رواية غير «ورجم بالحجارة» وعند الحنفية لا يجمع بين الرجم والجلد في المحصن وهو قول مالك‏.‏ والشافعي ورواية أخرى عن أحمد لأن الجلد يعري عن المقصود الذي شرع الحد له وهو الانزجار أو قصده إذا كان القتل لاحقاً له، والعمدة في استدلالهم على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يجمع بينهما قطعاً، فقد تظافرت الطرق أنه صلى الله عليه وسلم بعد سؤاله ما عزا عن الإحصان وتلقيمه الرجوع لم يزد على الأمر بالرجم فقال‏:‏ اذهبوا به فارجموه، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏"‏ اغديا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت بذلك فارجمها ‏"‏ ولم يقل فاجلدها ثم ارجمها، وجاء في باقي الحديث الشريف ‏"‏ فاعترفت فأمر بها صلى الله عليه وسلم فرجمت ‏"‏ وقد تكرر الرجم في زمانه صلى الله عليه وسلم ولم يرو أحد أنه جمع بينه وبين الجلد فقطعنا بأنه لم يكن إلا الرجم فوجب كون الخبر السابق منسوخاً وإن لم يعلم خصوص الناسخ، وأجيب عما فعل علي كرم الله تعالى وجهه من الجمع بأنه رأى لا يقاوم ما ذكر من القطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا لا يقاوم إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يقال‏:‏ إنه كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عنده الإحصان ءلا بعد الجلد وهو بعيد جداً كما يظهر من الرجوع إلى القصة والله تعالى أعلم، وإحصان الرجم يتحقق بأشياء نظمها بعضهم فقال‏:‏

شروط إحصان أتت ستة *** فخذها عن النص مستفهما

بلوغ وعقل وحرية *** ورابعها كونه مسلما

وعقد صحيح ووطء مباح *** متى اختل شرط فلن يرجما

وزاد غير واحد كون واحد من الزوجين مساوياً الآخر في شراط الإحصان وقت الإصابة بحكم النكاح فلو تزوج الحر المسلم البالغ العاقل أمة أو صبية أو مجنونة أو كتابية ودخل بها لا يصير محصناً بهذا الدخول حتى لو زنى من بعد لا يرجم، وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة المسلمة من عبد أو مجنون أو صبي ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت بعد‏.‏

وذكر ابن الكمال شرطاً آخر وهو أن لا يبطل إحصانهما بالارتداد فلو ارتدا والعياذ بالله تعالى ثم أسلما لم يعد إلا بالدخول بعده ولو بطل بجنون أوعته عاد بالإفاقة، وقيل بالوطء بعده‏.‏ والشافعي لا يشترط المساواة في شرائط الإحصان وقت الإصابة فلا رجم عنده في المسألتين السابقتين، وكذا لا يشترط الإسلام فلو زنى الذمي الثيب الحر يجلد عندنا ويرجم عنده وهو رواية عن أبي يوسف وبه قال أحمد، وقول مالك كقولنا‏.‏

واستدل المخالف بما في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما تجدون في التوراة في شأن الرجم‏؟‏ فقالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن‏:‏ كذبتم فيما زعمتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فسردوها فوضع أحدهم يعني عبد الله بن صوريا يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام‏:‏ ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فقالوا‏:‏ صدق يا محمد فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فجرما‏.‏

ودليلنا ما رواه إسحق بن راهويه في مسنده قال‏:‏ أخبرنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من أشرك بالله فليس بمحصن ‏"‏ وقد رفع هذا الخبر كما قال إسحق مرة ووقف أخرى، ورواه الدارقطني في «سننه» وقال‏:‏ لم يرفعه غير راهويه بن راهويه، ويقال‏:‏ إنه رجع عن ذلك والصواب أنه موقوف اه‏.‏ وفي العناية أن لفظ إسحق كما تراه ليس فيه رجوع وإنما ذكره عن الراوي أنه مرة رفعه ومرة أخرجه مخرج الفتوى ولم يرفعه ولا شك في أن مثله بعد صحة الطريق إليه محكوم برفعه على ما هو المختار في علم الحديث من أنه إذا تعارض الرفع والوقف حكم بالرفع وبعد ذلك إذا خرج من طرق فيها ضعف لا يضر‏.‏

وأجاب بعض أجلة أصحابنا بأنه كان الرجم مشروعاً بدون اشتراط الإسلام حين رجم صلى الله عليه وسلم الرجل والمرأة اليهوديين وذلك بما أنزله الله تعالى إليه عليه الصلاة والسلام، وسؤاله صلى الله عليه وسلم اليهود عما يجدونه في التوراة في شأنه ليس لأن يعلم حكمه من ذلك‏.‏

والقول بأنه عليه الصلاة والسلام كان أول ما قدم المدينة مأموراً بالحكم بما في التوراة ممنوع بل ليس ذلك إلا ليبكتهم بترك الحكم بما أنزل الله تعالى عليهم فلما حصل الغرض حكم صلى الله عليه وسلم برجمهما بشرعه الموافق لشرعهم وإذا علم أن الرجم كان ثابتاً في شعرنا حال رجمها بلا اشتراط الإسلام‏.‏ وقد ثبت حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المفيد لاشتراط الإسلام وليس تاريخ يعرف به تقدم اشتراط الإسلام على عدم اشتراطه أو تأخره عنه حصل التعارض بين فعله صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين وقوله المذكور فيطلب الترجيح، وقد قالوا‏:‏ إذا تعارض القول والفعل ولم يعلم المتقدم من المتأخر يقدم القول على الفعل، وفيه وجه آخر وهو أن تقديم هذا القول موجب لدرء الحد وتقديم ذلك الفعل يوجب الاحتياط في إيجاب الحد والأولى في الحدود ترجيح الرافع عند التعارض‏.‏

ولا يخفى أن كل مترجح فهو محكوم بتأخره اجتهاداً فيكون المعمول عليه في الحكم حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقول المخالف‏:‏ إن المراد بالمحصن فيه المحصن الذ يقتص له من المسلم خلاف الظاهر لأن أكثر استعمال الاحصان في إحصان الرجم‏.‏

ورد بعضهم بالآية على القائلين‏:‏ إن حد زنا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة وهم الإمام الشافعي والإمام أحمد‏.‏ والثوري‏.‏ والحسن بن صالح، ووجه الرد أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزانية والزانى‏}‏ الخ شروع في بيان حكم الزنا ما هو فكان المذكور تمام حكمه وإلا كان تجهيلاً لا بياناً وتفصيلاً إذ يفهم منه أنه تمام وليس بتمام في الواقع فكان مع الشروع في البيان أبعد من البيان لأنه أوقع في الجهل المركب وقبله كان الجهل بسيطاً فيفهم بمقتضى ذلك أن حد الزانية والزاني ليس إلا الجلد، وأخصر من هذا أن المقام مقام البيان فالسكوت فيه يفيد الحصر، وقال المخالف‏:‏ لو سلمنا الدلالة على الحصر وأن المذكور تمام الحكم ليكون المعنى أن حد كل ليس إلا الجلد فذلك منسوخ بما صح من رواية عبادة بن الصامت عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏

«البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وأجيب بأنه بعد التسليم لا تصح دعوى النسخ بما ذكر لأنه خبر الواحد وعندنا لا يجوز نسخ الكتاب به؛ والقول بأن الخبر المذكور قد تلقته الأمة بالقبول لا يجدي نفعاً لأنه إن أريد بتلقيه بالقبول إجماعهم على العمل به فممنوع، فقد صح عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه لا يقول بتغريبهما وقال حسبهما من الفتنة أن ينفيا، وفي رواية كفى بالنفي فتنة، وإن أريد إجماعهم على صحته بمعنى صحه سنده فكثير من أخبار الآحاد كذلك ولم تخرج بذلك عن كونها آحاداً، على أنه ليس فيه أكثر من كون التغريب واجباً ولا يدل على أنه واجب بطريق الحد بل ما في صحيح البخاري من قول أبي هريرة‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد ظاهر في أن النفي ليس من الحد لعطفه عليه، وكونه استعمل الحد في جزء مسماه وعطف على الجزء الآخر بعيد فجاز كونه تعزيراً لمصلحة، وقد يغرب الإمام لمصلحة يراها في غير ما ذكر كما صح أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غرب نصر بن حجاج إلى البصرة بسبب أنه لجماله افتتن بعض النساء به فسمع قائلة يقال‏:‏ إنها أم الحجاج الثقفي ولذا قال له عبد الملك يوماً با ابن المتمنية تقول‏:‏

هل من سبيل إلى خمر فأشربها *** أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج

إلى فتى ماجد الاعراق مقتبل *** سهل المحيا كريم غير ملجاج

والقول بأنه لا يجتمع التعزيز مع الحد لا يخفى ما فيه‏.‏ وادعى الفقيه المرغيناني أن الخبر المذكور منسوخ فإن شطره الثاني الدال على الجمع بين الجلد والرجم منسوخ كما علمت؛ وفيه إنه لا لزوم فيجوز أن تروى جمل نسخ بعضها وبعضها لم ينسخ، نعم ربما يكون نسخ أحد الشطرين مسهلاً لتطرق احتمال نسخ الشطر الآخر فيكون هذا الاحتمال قائماً فيما نحن فيه فيضعف عن درجة الآحاد التي لم يتطرق ذلك الاحتمال إليها فيكون أحرى أن لا ينسخ ما أفاده الكتاب من أن الخد هو الجلد لا غير على ما سمعت تقريره فتأمل‏.‏

ثم إن التغريب ليس خصوصاً بالرحل عند أولئك الأئمة فقد قالوا‏:‏ تغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها في قول وفي بيت المال في آخر، ولو امتنع ففي قول يجبره الإمام وفي آخر لا، ولو كانت الطريق آمنة ففي تغريبها بلا محرم قولان، وعند مالك‏.‏ والأوزاعي إنما ينفي الرجل ولا تنفي المرأة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «البكر بالبكر» الخ، وقال غيرهما ممن تقدم‏:‏ إن الحديث يجب أن يشملها فإن أوله «خذوا عني قد جعل الله تعالى لهن سبيلاً البكر البكر» الخ وهو نص على أن النفي والجلد سبيل للنساء والبكر يقال‏:‏ على الأنثى ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «البكر تستأذن» ومع قطع النظر عن كل ذلك قد يقال‏:‏ إن هذا من المواضع التي تثبت الأحكام فيه في النساء بالنصوص المفيدة اياها للرجال بتنقيح المناط، هذا ثم لا يخفى أن الظاهر من ‏{‏الزانية والزانى‏}‏ ما يشمل الرقيق وغيره فيكون مقدار الحد في الجميع واحداً لكن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ الآية أخرجت الإماء فإن الآية نزلت فيهن، وكذا أخرجت العبيد إذ لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح المناط فيرجع في ذلك إلى دلالة النص بناء على أنه لا يشترط في الدلالة أولوية المسكوت بالحكم من المذكور بل المساواة تكفي فيه وقيل تدخل العبيد بطريق التغليب عكس القاعدة وهي تغليب الذكور‏.‏

ولا يشترط الإحصان في الرقيق لما روي مسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن» وفيه دليل على أن الشرط أعني الاحصان في الآية الدالة على تنصيف الحد لا مفهوم له، ونقل عن ابن عباس‏.‏ وطاوس أنه لا حد على الأمة حتى تحصن بزوج، وفيه اعتبار المفهوم، ثم هذا الإحصان شرط للجلد لأن الرجم لا يتنصف، وللشافعي في تغريب العبد أقوال‏:‏ يغرب سنة‏.‏ يغرب نصف سنة‏.‏ لا يغرب أصلا والخطاب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاجلدوا‏}‏ لأئمة المسلمين ونوابهم‏.‏

واختلف في إقامة المولى الحد على عبده فعندنا لا يقيمه إلا بإذن الإمام؛ وقال الشافعي‏.‏ ومالك‏.‏ وأحمد يقيمه من غير اذن، وعن مالك إلا في الأمة المزوجة، واستثنى الشافعي من المولى‏.‏ الذمي‏.‏ والمكاتب‏.‏ والمرأة، وكذا اختلف في إقامة الخارجي المتغلب الحد فقيل يقيم وقيل لا، وأدلة الأقوال المذكورة وتحقيق ما هو الحق منها في محله‏.‏ والظاهر أن إقامة الحد المذكور بعد تحقق الزنا بإحدى الطرق المعلومة، وقال اسحق‏:‏ إذا وجد رجل وامرأة في ثوب واحد يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وروي ذلك عن عمر‏.‏

وعلى رضي الله تعالى عنهما، وقال عطاء‏.‏ والثوري‏.‏ ومالك‏.‏ وأحمد‏:‏ يؤدبان على مذاهبهم في الأدب ‏{‏وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ‏}‏ تلطف ومعاملة برفق وشفقة ‏{‏فِى دِينِ الله‏}‏ في طاعته وإقامة حده الذي شرعه عز وجل، والمراد النهي عن التخفيف في الجلد بأن يجلدوهما جلداً غير مؤلم أو بأن يكون أقل من مائة جلدة‏.‏

وقال أبو مجلز‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعكرمة‏.‏ وعطاء‏:‏ المراد النهي عن إسقاط الحد بنحو شفاعة كأنه قيل‏:‏ أقيموا عليهما الحد ولا بد، وروي معنى ذلك عن ابن عمر‏.‏ وابن جبير، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز السفاعة في إسقاط الحد، والظاهر أن المراد عدم جواز ذلك بعد ثبوت سبب الحد عند الحاكم، وأما قبل الوصول إليه والثبوت فإن الشفاعة عند الرافع لمن اتصف بسبب الحد إلى الحاكم ليطلقه قبل الوصول وقبل الثبوت تجوز، ولم يخصوا ذلك بالزنا لما صح أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على حبه أسامة بن زيد حين شفع في فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية السارقة قطيفة، وقيل حلياً فقال له‏.‏ «أتشفع في حد من حدود الله تعالى‏؟‏ ثم قام فخاطب فقال‏:‏ أيها الناس إنما ضل من قلبكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله تعالى لو أن فاطمة بنت محمد سرقت وحاشاها لقطعت يدها» وكما تحرم الشفاعة يحرم قبولها فعن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا الله تعالى عنه إن عفا، و‏{‏بِهِمَا‏}‏ قيل متعلق بمحذوف على البيان أي أعني بهما، وقيل بترأفوا محذوفاً أي ولا ترأفوا بهما، ويفهم صنيع أبي البقاء اختيار تعلقه بتأخذ والباء للسببية أي ولا تأخذكم بسببهما رأفة ولم يجوز تعلقه برأفة معللا بأن المصدر لا يتقدم معموله عليه، وعندي هو متعلق بالمصدر ويتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره‏.‏

وقد حقق ذلك العلامة سعد الملة والدين في أول شرح التلخيص بما لا ميزد عليه، و‏{‏فِى دِينِ‏}‏ قيل متعلق بتأخذ وعليه أبو البقاء، وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لرأفة‏.‏ وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ والسلمي‏.‏ وابن مقسم‏.‏ وداود بن أبي هند عن مجاهد ‏{‏وَلاَ‏}‏ بالياء التحتية لأن تأنيث ‏{‏بِهِمَا رَأْفَةٌ‏}‏ مجازي وحسن ذلك الفصل‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏رَأْفَةٌ‏}‏ بفتح الهمزة، وابن جريج ‏{‏رءافة‏}‏ بألف بعد الهمزة على وزن فعالة وروي ذلك عن عاصم‏.‏ وابن كثير، ونقل أبو البقاء أنه قرأ ‏{‏بِهِمَا رَأْفَةٌ‏}‏ بقلب الهمزة ألفاً وهي في كل ذلك مصدر مسموع إلا أن الأشهر في الاستعمال ما وافق قراءة الجمهور‏.‏

‏{‏إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر‏}‏ من باب التهييج والإلهاب كما يقال‏:‏ إن كنت رجلاً فافعل كذا ولا شك في رجوليته وكذا المخاطبون هنا مقطوع بإيمانهم لكن قصد تهييجهم وتحريك حميتهم ليجدوا في طاعة الله تعالى ويجتهدوا في إجراء أحكامه على وجهها، وذكر ‏{‏اليوم الاخر‏}‏ لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة الرأفة بهما ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين‏}‏ أي ليحضره زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب أو لذلك وللعبرة والموعظة، وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعي لهما بالتوبة والرحمة لا للتفضيح وهو في غاية البعد من السياق، والأمر هنا على ما يدل عليه كلام الفقهاء للندب‏.‏

واختلف في هذه الطائفة فاخرج عبد بن حميد‏.‏ وغيره عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الطائفة الرجل فما فوقه وبه قال أحمد، وقال عطاء‏.‏ وعكرمة‏.‏ واسحق بن راهويه‏:‏ إثنان فصاعداً وهو القول المشهور لمالك، وقال قتادة‏.‏ والزهري‏:‏ ثلاثة فصاعداً، وقال الحسن‏:‏ عشرة، وعن الشافعي‏.‏ وزيد‏:‏ أربعة وهو قول لمالك، قال الخفاجي‏:‏ وتحقيق المقام أن الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنث من الطواف الدوران أو الإحاطة فهي أما صفة نفس أي نفس طائفة فتطلق على الواحد أو صفة جماعة أي جماعة طائفة فتطلق على ما فوقه فهي كالمشترك بين تلك المعاني فتحمل في كل مقام على ما يناسبه‏.‏

وذكر الراغب أنها إذا أريد بها الواحد يصح أن تكون جمعاً كني به عن الواحد ويصح أن تكون مفرداً والتاء فيها كما في رواية، وفي حواشي العضد للهروي يصح أن يقال للواحد طائفة ويراد نفس طائفة فهي من الطواف بمعنى الدوران‏.‏

وفي «شرح البخاري» حمل الشافعي الطائفة في مواضع من القرآن على أوجه مختلفة بحسب المواضع فهي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏ واحد فأكثر واحتج به على قبول خبر الواحد وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ أربعة وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏ ثلاثة، وفرقوا في هذه المواضع بحسب القرائن، أما في الأولى فلأن الانذار يحصل به، وأما في الثانية فلأن التشنيع فيه أشد، وأما في الثالثة فلضمير الجمع بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏ وأقله ثلاثة، وكونها مشتقة من الطواف لا ينافيه لأنه يكون بمعنى الدوران أو هو الأصل وقد لا ينظر إليه بعد الغلبة فلذا قيل‏:‏ إن تاءها للنقل انتهى ولا يخلو عن بحث‏.‏

والحق أن المراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير، والزجر وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل تشهيره وزجره بثلاثة وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة، وللقائل بالأربعة هنا وجه وجيه كما لا يخفى‏.‏